مارسيليا بين التاريخ وتحديات الحاضر.. شباب الأحياء الفقيرة لم يطأ البحر يوما ويسعى للخروج من التهميش
هؤلاء الأطفال، الذين جُلبوا من مركز خدمات اجتماعية يقع الأحياء الفقيرة شمال المدينة الساحلية والتي ينحدر أغلب سكانها من دول المغرب العربي، يمثلون جزءًا من برنامج لتعليم السباحة في المدينة التي ستستضيف منافسات الإبحار الأولمبي لعام 2024.
تعتبر مرسيليا، المدينة الساحلية العريقة التي تحمل بين طياتها تاريخًا يمتد لآلاف السنين، ملتقى لثقافات وأديان متعددة، حيث يظل البحر عنصرًا دائم الحضور، لكنه ليس دائمًا متاحًا للجميع. في هذا السياق، قال ماتياز سينتيس، مشرف في مرسى كوربيير لجمعية غراند بلو، "هناك أطفال يرون البحر من نوافذهم ولكنهم لم يلمسوه قط." وتقوم الجمعية بتدريب الأطفال المهمّشين، حيث يُقدر أن 50% منهم لم يتعلموا السباحة بعد.
تأسست الجمعية على يد إبراهيم تيمريشت، الذي نشأ في الأحياء الشمالية لمرسيليا، بهدف تمكين الأطفال من الاستمتاع بمياه البحر الذي يلمع على سفح المنحدرات الصخرية حيث الأبراج السكنية المتهالكة. وقد أدرك تيمريشت أن العديد من الأطفال لم يتعلموا السباحة في المدارس، مع أنها مهارة ضرورية، وقرر استغلال فصل الصيف لتعليمهم هذه الرياضة الحيوية.
وأضاف الناشط: "أخبرتنا الأمهات أنهن لا يذهبن إلى الشاطئ بسبب خوفهن من عدم معرفتهن للسباحة، لذا بدأنا برامج تعليمية لهن أيضًا." هذا الواقع يسلط الضوء على النقص في حمامات السباحة كدليل على "الانفصال الاجتماعي والاقتصادي"، حيث يقول جان كوجييه، معلم التربية البدنية في الأحياء الشمالية: "نقلنا الطلاب لمدة 45 دقيقة إلى حمام سباحة حيث خصصت لهم مسارات محددة، وهو نموذج غير مستدام."
وبينما تناقش المدينة إمكانية استخدام المرسى الأولمبي بعد الألعاب، يظل البحر باردًا للسباحة في معظم فصول السنة الدراسية، ما يجعل الحاجة لبناء المزيد من حمامات السباحة أكثر إلحاحًا. وتواجه جهود تعليم هذه الرياضة تحديات إضافية بسبب الشهادات الطبية المزورة التي يستخدمها بعض الأهالي حتى لا يرسلوا أطفالهم إلى حمام السباحة، في ظل الجدل المستمر حول مفهوم "العلمانية" في فرنسا.
لكن رغم التحديات، تظل الرياضة وسيلة لتفادي التهميش والانخراط أكثر في المجتمع. ولنأخذ كمثال زين الدين زيدان، المنحدر من أصول جزائرية وأحد أعظم اللاعبين في تاريخ كرة القدم الفرنسية. فقد نشأ في أحد الأحياء الشمالية الفقيرة في مارسيليا. ويظل شغف المدينة بكرة القدم رابطًا موحدًا بين سكانها.
بالنسبة للأطفال في مرسى كوربيير، كانت تجربة البحر فرصة لتوسيع آفاقهم ومقابلة أشخاص جدد. هم "لا يريدون الرحيل"، قالت صفورة سعيد، إحدى قادة المجموعة، التي ارتدت الحجاب أثناء النشاطات، بما في ذلك أثناء التجديف.
تجسد مرسيليا العلاقة الوثيقة بين البحر والمدينة، التي تأسست قبل 2600 عام كميناء تجاري، وتُعتبر أقدم مدينة في فرنسا والثانية في المساحة بعد العاصمة باريس. قال فابريس دينيس، مدير متحف تاريخ مرسيليا: "قبل أن تكون مدينة، كانت مرسيليا ميناءً." اليوم، يُعد ميناء مرسيليا، ثالث أكبر ميناء في البحر الأبيض المتوسط من حيث حجم الشحن، وهو مركز حيوي يشمل المصافي والسفن السياحية.
بدأت القصة يوما في خليج صغير، وهو يُعتبر حاليا من أبرز معالم السياحة في المدينة، حيث كانت السفن الخشبية تنقل شحنات مثل كروم العنب إلى مناطق شمالية تُعرف الآن بإنتاج النبيذ الرفيع. ومع مرور الوقت، تطور الميناء ليصبح مركزًا حضريًا عظيمًا، وفي القرن السابع عشر، تمت إضافة الحصون لحمايته.
تتربع كنيسة نوتردام دو لا غارد المعروفة بلقب "الأم الطيبة" على قمة تل مرسيليا كرمز حقيقي لحماية المدينة. تستقطب الكنيسة حوالي 2.5 مليون زائر سنويًا، لتقدم لهم إطلالة ساحرة تجمع بين الميناءين القديم والجديد، والأحياء المحيطة بالمرسى الأولمبي، وكذلك الأبراج البارزة في الأحياء الشمالية.
يقول الأب أوليفييه سبينوسا، راعي الكنيسة: "يمكنك رؤية مرسيليا، والبحر، والأفق، كل ذلك تحت نظرتها الرؤوفة." وأضاف: "من الأسهل رؤية الجمال من الأعلى، ويشجعنا ذلك على العمل على أشياء جميلة عندما نكون في الأسفل."