غزة: مظاهرات حاشدة في أوروبا وصمت شبه تام في الشارع العربي .. أي تفسير وما الأسباب؟

بينما تغصّ الساحات الأوروبية بمسيرات داعمة لغزة، يُلاحظ غياب المظاهرات الحاشدة في المدن العربية، وسط صمت مطبق أو يكاد. فكيف أصبح الاحتجاج ضد الحرب في غزة الت حاضرًا بقوة في الغرب وغائبًا في الشرق العربي؟
غزة تستنفر أوروبا
في أيلول/سبتمبر الجاري، قدمت العاصمة الإسبانية مدريد مشهدًا دراماتيكيًا عندما اجتاح ما يقارب 100,000 متظاهر شوارعها، في احتجاج ضخم أجبر السلطات على إلغاء المرحلة النهائية من سباق طواف إسبانيا الشهير بعد اقتحام المحتجين لمسار السباق.
وفي بلجيكا، تحالفت أكثر من 200 منظمة حقوقية دولية وعالمية، من "أطباء بلا حدود" إلى "أوكسفام"، لتنظيم مسيرة "الخط الأحمر لغزة"، رافعين لافتات تدين ما وصفوها ب"الإبادة" وتطالب بوقف إطلاق النار الفوري، وهتفوا بصوت واحد: "كفى".
أما في فرنسا، فقد دأب الآلاف على الخروج في العاصمة باريس ومدن أخرى، متحدّين أحيانًا قيودًا حكومية حاولت حظر بعض المسيرات، وطالبوا بوقف الحرب على غزة والاعتراف بدولة فلسطين. وفي آذار/مارس 2025، تحوّلت مظاهرة سنوية ضد العنصرية في العاصمة إلى مسيرة حاشدة داعمة لفلسطين. رفع المحتجون خلالها لافتات تطالب بإنصاف الشعب الفلسطيني وحمايته، وبمحاكمة قادة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وفق تعبيرهم.
وقد أصبحت هذه المشاهد تتكرّر أسبوعيًا في لندن وبرلين وستوكهولم وروما وغيرها منذ بدء الحرب على قطاع غزة بعد هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. فقد أصبحت التظاهرات من أجل غزة روتينًا أسبوعيًا ثابتًا، يقوده ائتلاف واسع من نشطاء حقوق الإنسان، وأحزاب اليسار، والشباب، ومحتجون مسلمون ومسيحيون، وحتى يهود مناهضون للصهيونية.
المشهد العربي: صمت مطبق تخترقه أصوات خجولة
في المقابل، يقدم المشهد العربي صورة أكثر تعقيدًا وأقل ضجيجًا. فمع بعض الاستثناءات، تظل الاحتجاجات الشعبية الحاشدة محدودة، بل "خجولة" مقارنة بحجم الكارثة الإنسانية والمكانة التاريخية للقضية الفلسطينية في الوجدان العربي.
ففي دول مثل مصر والجزائر، حيث تبدو المواقف الرسمية داعمة لفلسطين على مستوى التصريحات، تمنع السلطات أي تجمع شعبي تحت ذرائع أمنية. والحق في التظاهر، رغم أنه منصوص عليه دستوريًا، يصطدم بحائط أمني صلب، مما يحوّل الغضب الشعبي إلى غضب صامت خلف شاشات الأجهزة الذكية.
وشهدت تونس والمغرب زخمًا نسبيًا في الدعوات للمقاطعة وبعض المسيرات المناصرة لغزة، فيما تفضل دول الخليج بشكل عام "ثقافة الدبلوماسية والمواقف الرسمية" على "ثقافة التظاهر"، التي ليست جزءًا من نسيجها الاجتماعي التقليدي.
أما الدول التي مزقتها النزاعات الداخلية، مثل السودان الغارق في حرب أهلية طاحنة منذ أبريل 2023، وسوريا التي أنهكتها الحرب الأهلية وسقوط نظام الأسد، ولبنان الرازح تحت أزمات اقتصادية وسياسية خانقة والمتضرر بشكل مباشر من تداعيات حرب غزة، فنجد أن مواطني تلك الدول، رغم تعاطفهم العميق، فإن محاولة البقاء على قيد الحياة أصبحت أكبر همّهم.
ويبقى اليمن هو الاستثناءً، فهو يشهد تظاهرات شعبية أسبوعية دعما غزة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون المدعومون من إيران الذين بدورهم يشنّون بانتظام غارات بالصواريخ والمسيّرات على الأراضي الإسرائيلية.
لماذا هذه الفجوة؟
تعود الفجوة الواضحة بين صخب الغرب وصمت الشرق إلى عدة عوامل:
الحيز الديمقراطي والحرية: في الديمقراطيات الغربية، يكفل الدستور الحق في التظاهر والتعبير، مما يتيح تحويل الغضب إلى تحركات على الأرض. أما في العديد من الدول العربية، فهذا الحيز ضيّق جدا بل غير موجود أحيانا، مما يجعل ثمن الخروج إلى الشارع باهظًا جدًا.
أولويات البقاء: ترزح معظم الشعوب العربية تحت وطأة ظروف اقتصادية خانقة. فمنهم من يكافح من أجل الكهرباء والخبز والسلامة الشخصية ما يجعل من الصعب أن يكرّس طاقته ويخرج للتظاهر، مهما كانت الأسباب ومهما كان موقفه الشخصي من قضية يعتبرها عادلة. فالأزمات الداخلية تستنفد طاقة تلك الشعوب وتجبرهم على التركيز على قضايا البقاء اليومي. كما أن الانقسامات السياسية والإقليمية والمذهبية تجعل من الصعب توحيد الشارع حول قضية واحدة، حتى لو كانت فلسطين.
المجتمع المدني والتنظيم: الحركات المنظمة في الغرب، من اليسار إلى منظمات حقوق الإنسان، تمتلك الخبرة التنظيمية والتمويل والقدرة على حشد الآلاف بسرعة وكفاءة. أما في معظم البلدان العربية، فالمجتمع المدني إما مقموع أو ضعيف.
متنفس بديل
بينما تمتلئ الشوارع والساحات الأوروبية بالمتظاهرين المؤيدين لغزة، اتخذ العالم العربي مسارًا مختلفًا للتعبير عن الغضب. فقد تحوّل الصوت الشعبي، في ظل القيود الصارمة على الحريات وحق التجمهر، إلى فضاء رقمي على منصات التواصل الاجتماعي. هناك ينقل المستخدمون صور ومقاطع الحرب المأساوية ويترجمونها إلى لغات عدة، فيما لعب المؤثّرون العرب دورًا محوريًا بتحويل حساباتهم إلى منابر للدفاع عن القضية الفلسطينية وجذب الرأي العام العالمي.
ولم يقتصر التعبير الرقمي على الكلمات والصور، بل تطور إلى أدوات عملية مثل حملات مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل. إذ نشأت قوائم منظمة للمنتجات المطلوب مقاطعتها وبدائلها، وتبادل المستخدمون استراتيجيات "الشراء الأخلاقي" على حد وصفهم.
وقد أثبتت هذه الحملات فعاليتها، إذ تكبّدت شركات كبرى خسائر ضخمة نتيجة المقاطعة الشعبية. فقد خسرت شركة "ستاربكس" أكثر من 12 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال عشرين يومًا فقط في كانون الأول/ديسمبر 2023، نتيجة تراجع أسهمها. كما تكبّدت سلسلة "ستاربكس" في ماليزيا خسائر صافية قياسية بلغت 69 مليون دولار أميركي للسنة المالية المنتهية في حزيران/يونيو 2025.
كذلك، خسرت شركة "ماكدونالدز" نحو 7 إلى 9 مليارات دولار من قيمتها السوقية خلال ساعات، بعد إعلانها تأثر مبيعاتها الدولية في الربع الرابع من 2023 بالمقاطعة. وتراجع سهمها بنسبة 4%، واضطرت الشركة لاحقًا إلى إعادة شراء جميع فروعها في إسرائيل بعد انهيار حاد في مستوى المبيعات.