فيديو - غزة بعد الحرب: منظومة صحيّة تنهار أمام العجز والمرض والإغلاق
في الوقت الذي خَفُتَ فيه صوت المدافع في قطاع غزة، بدأ يرتفع صوتٌ آخر أكثر رعباً، وهو دويّ الصمت المطبق في مستشفياتٍ تحوّلت إلى هياكل خاوية. بعد أسابيع من وقف إطلاق النار، تتكشف أبعادُ أزمة صحية "ممنهجة" وعميقة، حيث يموت المرضى ليس بسبب إصابات الحرب، بل نتيجة غياب أبسط مقوّمات الحياة داخل المستشفيات: دواء، أو سرير، أو جهاز طبي. المنظمات الدولية والسلطات الصحية المحلية تدق ناقوس الخطر، محذرة من أن ما يجري ليس مجرد تداعيات حرب، بل هو انهيار شامل يهدد حياة أكثر من مليوني إنسان.
أزمةٌ تتجاوز جرحى الحرب
يتجاوز المشهد في غزة اليوم حدود الكارثة الإنسانية التقليدية. فالأزمة لم تعد تقتصر على علاج جرحى الحرب، بل امتدت لتشمل مرضى السرطان، والكلى، والسكري، والأطفال الخدج، الذين يواجهون حكماً بالموت مع نفاد أدويتهم. وتصف منظمة الصحة العالمية الوضع بأن الخدمات الطبية تعمل في "أدنى مستوياتها"، حيث إن أقل من نصف مستشفيات القطاع و38% فقط من مراكز الرعاية الأولية لا تزال تعمل بشكل جزئي.
ويصف الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة، الواقع بأنه "بنية تحتية منهارة"، حيث تعمل الطواقم الطبية المنهكة في غرف طوارئ بلا كهرباء وغرف عمليات بلا تجهيزات. أما الأرقام التي تقدمها الوزارة فهي ترسم صورة قاتمة: إذ بلغت نسبة العجز في الأدوية الأساسية نحو 84%، ومخزون 40% من أدوية الطوارئ وصل إلى "الصفر" لأول مرة في تاريخ القطاع. أما المستلزمات الطبية، من الشاش إلى المحاليل، فتعاني من عجز بنسبة 71%.
شهادات من الميدان
ويشير إسماعيل الثوابتة، رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، إلى أن الواقع الدوائي "كارثي"، لأن إسرائيل تمنع إدخال 800 صنف من الأدوية، مما تسبّب في وفاة 42% من مرضى الكلى. ويضيف أن ما يدخل من مساعدات لا يغطّي سوى 5% من الاحتياج الفعلي.
وأضاف، يواجه القطاع الطبي في قطاع غزة عجزاً حاداً يتجاوز 70% في المستلزمات الطبية، بينما سجلت المعدات الطبية مستوى صفر في المستودعات بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي مئات الأدوات الطبية بشكل كامل.
وأكد المسؤول الغزاوي، أن أكثر من 350 ألف مريض بأمراض مزمنة يعانون معاناة قاسية في الحصول على الأدوية، مشيراً إلى أن نسبة الوفيات ارتفعت إلى ستة أضعاف ونصف الضعف منذ بداية الحرب.
وتصف الصيدلانية ديما العربي الوضع قائلة: "الأدوية الموجودة تقتصر على بعض المضادات الحيوية والمسكنات، وهي كميات قليلة جداً لا تفي بحاجة المرضى". وتؤكد أن نقص الموردين والأدوية أدى إلى تدهور خطير في حالات الكثير من المرضى.
ويكشف الدكتور علاء حلس، مدير دائرة الرعاية الصيدلانية في وزارة الصحة، صورة أكثر قتامة للوضع الدوائي في القطاع، موضحًا أن أكثر من 44% من قائمة الأدوية الأساسية وصلت إلى مستوى الصفر، إضافة إلى 57% من المستهلكات الطبية التي نفدت بالكامل. ويؤكد أن هذا النقص الحاد "يُلقي بظلال خطيرة على الخدمات الصحية كافة"، بدءًا من الطوارئ والعناية المركزة، وصولًا إلى أقسام الأورام وغسيل الكلى.
ويشير حلس إلى أن 90% من خدمات القسطرة غير متوفرة، ما يعني أن أي مريض يحتاج إلى تدخل قسطري "لا يملك فرصة للعلاج داخل غزة"، وهو وضع يهدد حياة المرضى يوميًا. كما يوضح أن نقص الأدوية الخاصة بالأورام وصل إلى 54%، في حين فُقد 34% من المستهلكات الخاصة بمرضى غسيل الكلى، بما في ذلك أدوات تغيير الضمادات، ما يجعل إجراء أبسط العلاجات "مهمة شبه مستحيلة".
ويضيف أن علاج مرضى الغسيل الكلوي وزراعة الكلى غير متوفر كليًا، ما يضع حياة نحو 1000 مريض على المحك، في وقت تعاني فيه الأقسام الحيوية الأخرى من نقص كامل في الأدوية المخصصة للولادة، والمرضى النفسيين، وتشنجات الأطفال. ويختم بالقول إن المستشفيات "تعمل في ظروف استثنائية لا تسمح بالحفاظ على الحد الأدنى من الرعاية الطبية".
أزمةٌ متعددة الأوجه وتداعياتٌ طويلة الأمد
هذا الانهيار ليس وليد الصدفة. فالقيود المفروضة على المعابر تمنع دخول الإمدادات الحيوية. ويؤكد الدكتور ريك بيبركورن، ممثل منظمة الصحة العالمية، أن دخول الفرق الطبية الدولية والإمدادات "أمر بالغ الصعوبة"، حيث تتعرض الشحنات للتأخير أو الرفض، بما في ذلك أجهزة العناية المركزة والتخدير.
وتتجاوز الأزمة نقص الأدوية لتشمل تداعيات صحية طويلة الأمد. فقد رصدت منظمة الصحة العالمية ارتفاعاً غير مسبوق في حالات التهاب السحايا ومتلازمة غيلان باريه، مؤكدة أن علاجها "شبه مستحيل" في ظل الظروف الحالية. وفي الوقت نفسه، حذر برنامج الأغذية العالمي من وصول الجوع وسوء التغذية إلى مستويات قياسية، مع تسجيل 227 حالة وفاة مرتبطة بالجوع، بينهم 103 أطفال.
وتكشف وزارة الصحة عن مؤشّرات أكثر خطورة، كإصابة 82% من الأطفال دون سن العام بفقر الدم، ووجود 6 آلاف شخص مبتور الأطراف بحاجة ماسة لبرامج تأهيل وأطراف صناعية غير متوفرة. وفي مجمع الشفاء الطبي، توفي ستة أطفال خدّج بسبب نفاد الأدوية، وبلغت نسبة الوفيات بينهم 35%.
معابر مغلقة في وجه مرضى ينتظرون العلاج
وبينما ينتظر أكثر من 18 ألف مريض، بينهم 7 آلاف جريح، فرصة للسفر إلى الخارج، يبقى المعبر مغلقاً أمامهم. وقد توفي بالفعل ألف مريض كانوا على قوائم الانتظار.
في ظل هذه المعطيات، يظل النظام الصحي في غزة على حافة الانهيار، حيث تعمل الطواقم الطبية بجهد كبير وسط إمكانيات محدودة، في محاولة مستمرة لإنقاذ حياة المرضى وتقديم الرعاية الممكنة رغم الظروف القاسية والانهيار شبه الكامل للخدمات الصحية.
Today