مع تراجع الأنظمة الصحية في العالم العربي.. هل يشكّل الطب التقليدي ملاذًا آمنًا للمرضى؟
يعود الطب البديل إلى الواجهة مع استضافة الهند القمة العالمية الثانية لمنظمة الصحة العالمية حول الطب التقليدي في نيودلهي بين 17 و19 ديسمبر، وهي قمة تهدف إلى إعادة إدماج هذا النمط العلاجي ضمن أطر علمية قائمة على الأدلة وحوكمة أخلاقية واضحة.
ويبدو أن القمة لم تُطرح بوصفها احتفاءً بالماضي، بل كاستجابة لأزمات الحاضر، مع التركيز على إمكانية دمج الطب التقليدي بأمان في أنظمة الرعاية الصحية، في مسعى لبناء أنظمة صحية أكثر شمولًا واستدامة. وفي العالم العربي، حيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية مع الحروب وتفكك البنى الصحية، يبدو هذا النقاش أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ما هو الطب الحديث؟
يمثّل الطب الحديث المرحلة الأكثر تقدمًا في تاريخ العلاج، وقد قام على قطيعة منهجية مع الممارسات التقليدية، عبر الفصل الدقيق بين المادة الفعالة والمرض، وإخضاع الأدوية لمعايير علمية صارمة من حيث الفعالية والسلامة وآليات التأثير.
والانطلاقة الفعلية لهذا المسار تعود إلى عام 1805 مع عزل المورفين كأول مركّب دوائي فعّال، ما فتح الباب أمام تطور الكيمياء الدوائية والتجارب المخبرية والدراسات السريرية الممنهجة.
وقد أتاح هذا النهج فهمًا معمقًا لتفاعل الأدوية مع الأهداف البيولوجية داخل الجسم، وأسهم في تطوير علاجات دقيقة لأمراض معقدة، لا سيما السرطان وأمراض القلب والالتهابات، غير أن هذا التقدم ظل مشروطًا بوجود أنظمة صحية قادرة على التمويل والتوزيع العادل، وهي شروط لم تتوافر بالقدر نفسه في مختلف مناطق العالم.
التحول نحو الطب التقليدي في العالم العربي
في العالم العربي، تُترجم الفروق الاقتصادية إلى تفاوتات حادة في القطاع الصحي، فالدول ذات الناتج المحلي المرتفع، مثل قطر والإمارات، تنفق أكثر على الصحة وتحقق مؤشرات أفضل، بينما تعاني الدول ذات الاقتصاد الأضعف من ارتفاع الوفيات بسبب الأمراض المعدية وتراجع متوسط العمر المتوقع. ويشكّل ارتفاع تكاليف العلاج ونزيف الكوادر الطبية تحديًا إضافيًا، إذ شهدت دول مثل مصر هجرة واسعة للأطباء نتيجة تدني الأجور وضعف الحماية القانونية ونقص الإمكانات.
وتتعاظم هذه الفجوة في سياقات الأزمات والحروب، حيث تتحمل الأنظمة الصحية أعباء تفوق قدرتها، إذ تُفكك الحروب شبكات الرعاية، وتؤدي إلى نزوح واسع، وتفاقم احتياجات الفئات الأكثر ضعفًا. وتعاني الأنظمة الصحية في الحروب من نقص الموارد الطبية والبشرية، وضعف المنشآت ونظم تبادل المعلومات، ما يجعل الاستجابة للأزمات الإنسانية قاصرة.
في اليمن، على سبيل المثال، لا يعمل سوى نحو نصف المرافق الصحية، وسط نقص حاد في الأدوية والمعدات والكوادر، وانتشار للأمراض المعدية بسبب غياب المياه النظيفة لنحو 15 مليون شخص، واعتماد شبه كامل على تمويل إنساني يهدده خفض حاد لا يتجاوز 10% من احتياجات 2025. أما في غزة، فقد أدى التدمير الإسرائيلي الممنهج للبنية الصحية إلى شلل واسع في المستشفيات، ونقص كارثي في الوقود والأدوية، وانهيار خدمات المياه والصرف الصحي، ما خلق بيئة مثالية لتفشي الأمراض والمجاعة وسوء التغذية.
كنوز نباتية في العالم العربي
الطب التقليدي، القائم بمعظمه على المنتجات الطبيعية، شكّل لقرون طويلة الأساس الأول للممارسة الطبية، ولا يزال يحمل رصيدًا معرفيًا غنيًا. مراجعة علمية شاملة نُشرت عام 2020 في مجلة Saudi Journal of Biological Sciences أظهرت أن نباتات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشكّل خزّانًا واعدًا لاكتشاف مركّبات جديدة مضادة لمرض السل، في منطقة يتميز تنوعها البيئي والمناخي بغنى نباتي لافت.
وتشير المراجعة إلى أن نحو 165 نوعًا نباتيًا من أصل 184 نوعًا تُظهر توافقًا واضحًا بين الاستخدامات الشعبية المرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي وبين الأدلة المخبرية. وتشمل هذه النباتات على سبيل المثال: الحبة السوداء والأوكالبتوس والزعتر وإكليل الجبل وأعشاب Cymbopogon... ما يدعم فكرة أن المعرفة العلاجية الشعبية ليست منفصلة عن الدليل العلمي، بل قد تشكّل نقطة انطلاق لأبحاث دوائية محلية أكثر أمانًا وأقل كلفة.
كما تؤكد مراجعة نُشرت عام 2006 في مجلة Evidence-Based Complementary and Alternative Medicine أن شرق المتوسط يمتلك إرثًا واسعًا من الطب العشبي، يُستخدم فيه ما بين 200 و250 نوعًا من النباتات لعلاج أمراض الجهاز التنفسي والهضمي والجلدي والكبد والسكري، وأن كثيرًا منها يحتوي مركبات فعالة مثبتة علميًا.
عندما يتحول العلاج إلى مصدر خطر
لا يخلو استخدام الطب التقليدي من مخاطر حقيقية، فغياب التنظيم والرقابة يفتح المجال أمام الاستغلال المادي وعمليات الاحتيال، وتسويق مواد غير فعالة أو ضارة بالصحة، في ظل ضعف وعي المستهلكين.
وتحذّر مراجعة عام 2006 من تراجع خطير في المعرفة التطبيقية لدى المعالجين التقليديين، حيث تُمارس وصف الأعشاب بشكل عرضي قائم على الأعراض فقط، من دون فهم علمي للمرض أو للمركبات الفعالة، إضافة إلى استخدام نباتات لا تطابق الأنواع الأصلية بسبب التهجين والتغيرات الزراعية.
وبين الممارسات العلمية والعشوائية، يبقى مستقبل الطب التقليدي في العالم العربي مرهونًا بقدرته على الانتقال من خيار اضطراري فرضته الأزمات، إلى مكوّن منظم ومكمّل داخل أنظمة صحية منهكة تبحث عن أي مساحة للصمود.
Today