غزة في قبضة "اقتصاد الظل": أزمة السيولة تفتك بالمواطنين وسط حرب مالية صامتة

تتعمّق الأزمة المالية في قطاع غزة في ظل شحّ السيولة النقدية وغياب أي أفق لحلول قريبة، مع مرور أكثر من 21 شهرًا على القتال.
ومنذ الأيام الأولى للحرب، وجد سكان غزة أنفسهم أمام أزمة نقدية خانقة بعد الإغلاق الكامل للمصارف ومنع السلطات الإسرائيلية إدخال الأموال إلى القطاع. وقد تفاقمت الأزمة مع اعتماد الآلاف على التطبيقات البنكية لإجراء المعاملات المالية، التي تفرض عمولات مرتفعة تستنزف دخلهم المحدود.
وبحسب مصادر محلية وشهادات عدد من المستخدمين، وصلت نسبة العمولة على عمليات السحب النقدي في الأيام الأخيرة إلى نحو 52% من إجمالي المبلغ، في ارتفاع غير مسبوق أثار موجة استياء واسعة.
ويأتي هذا التطور في وقت تشير فيه تقارير اقتصادية إلى تراجع حاد في حركة البيع والشراء، نتيجة ضعف القدرة الشرائية للمواطنين واحتكار بعض التجار للسيولة النقدية لتحقيق مكاسب إضافية.
وتحذّر جهات اقتصادية من استمرار هذا الوضع، خاصة في ظل غياب أي تدخلات تنظيمية، ما يُنذر بتفاقم الأعباء المعيشية على السكان، في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدتها غزة في تاريخها الحديث.
إسرائيل تمنع إدخال النقد: الأسباب الجذرية لأزمة السيولة في غزة
يشير خبراء اقتصاديون إلى أن السبب الرئيسي لأزمة السيولة المتفاقمة في قطاع غزة يعود إلى الرفض الإسرائيلي المستمر منذ نحو عامين لإدخال كميات جديدة من النقد، ما أدى إلى تآكل الكتلة النقدية المتداولة محليًا، وزيادة الاعتماد على السوق السوداء بعد الإغلاق شبه الكامل للبنوك نتيجة الحرب المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي ظل غياب أي إجراءات تنظيمية من الجهات المالية الرسمية، تتصاعد شكاوى المواطنين من صعوبة إجراء المعاملات اليومية، لا سيما مع رفض الباعة لبعض الفئات النقدية الورقية، مثل ورقة العشرين شيكل، حتى وإن كانت سليمة وغير تالفة.
التحويلات الخارجية في غزة: خسائر تتجاوز ثلثي القيمة وسط غياب القنوات الرسمية
مع صعوبة استقبال الأموال من الخارج عبر القنوات الرسمية، يضطر كثيرون إلى اللجوء لطرق غير مباشرة تتسبب لهم في خسائر كبيرة. فعند إرسال مبلغ 1000 دولار عبر التطبيقات البنكية، يمر المال بمراحل متعددة من الخصم والتحويل غير الرسمي، حتى يصل للمستلم جزء ضئيل فقط.
تبدأ الرحلة بخصم وسيط التحويل، الذي يتقاضى عمولة لا تقل عن 10%، ليصل المبلغ إلى الحساب البنكي بمقدار 900 دولار فقط. لكن المعاناة لا تنتهي هنا، فإذا أراد المستلم صرف المبلغ نقدًا، يواجه عقبة السوق السوداء، حيث يخسر نصف المبلغ تقريبًا ليصل إلى 450 دولارًا. ثم تأتي الضربة الأخيرة عند تحويل الدولار إلى الشيكل، إذ يُصرف المبلغ بأسعار مجحفة (100 دولار = 200 شيقل)، في حين أن قيمته الحقيقية تبلغ 350 شيقل. النتيجة النهائية؟ مبلغ 1000 دولار الأصلي يتحول إلى 900 شيقل فقط، أي أن المستلم خسر أكثر من 70% من قيمته الحقيقية قبل أن تصل الأموال إلى يده.
تكشف هذه الحسابات حجم المعاناة التي يعيشها المواطنون في ظل غياب قنوات تحويل آمنة وعادلة، مما يجعلهم عرضة لاستنزاف مدخراتهم عبر وسطاء يتقاضون عمولات باهظة.
كيف يتحوّل العجز النقدي إلى مكسب للسوق السوداء؟
كانت الأزمة النقدية في القطاع بيئة خصبة لظهور ما يُعرف محليًا بـ"تجار العمولة"، الذين يحوّلون الحاجة إلى تجارة مربحة على حساب حقوق المواطنين. ومع غياب الرقابة واحتكار فئة محددة للسيولة، ارتفعت عمولات التحويل والسحب النقدي إلى مستويات غير مسبوقة، تجاوزت في بعض الحالات حاجز 53%.
محمد أبو الروس، من مدينة دير البلح، يصف بدايات الأزمة مع اندلاع الحرب بقوله: "مع إغلاق البنوك، بدأت السيولة تتلاشى، وظهر تجار العمولة الذين صاروا يقتسمون معنا رواتبنا ومساعداتنا المالية. العمولة بدأت بـ15% ثم ارتفعت تدريجيًا حتى بلغت 53% اليوم، وهذا يعني أنني أخسر أكثر من نصف ما أملك قبل أن يصلني".
أما محمود عليوة، من مدينة غزة، فيربط الأزمة بسلسلة الأزمات المتراكمة التي يعاني منها السكان: "نحن نعيش تحت القصف، والنزوح، والمجاعة، والآن نواجه أزمة جديدة هي نقص السيولة. إذا كان راتبي 300 دولار، فأنا مجبر على دفع نصفه فقط لأتمكن من سحب النصف الآخر. هذه كارثة، فالتاجر يشاركني تعب أيامي وقوت أطفالي دون أي حق".
ويضيف عليوة أن الحل الوحيد يتمثل في إنهاء الحرب وعودة البنوك للعمل، بما ينهي هيمنة السوق السوداء على حركة الأموال.
من جهته، يصف الصحافي يحيى خضر هذه الظاهرة بأنها إحدى أخطر تداعيات الأزمة الاقتصادية، قائلاً: "لو أردت سحب 1000 شيكل من أحد التطبيقات البنكية، فلن أحصل فعليًا سوى على أقل من 450 شيكل. هذه النسبة الربوية غير المعلنة كانت قبل الحرب لا تتجاوز 2%، والآن صارت أكثر من 50% في ظل غياب الرقابة وتحوّل السيولة إلى سلعة نادرة في يد بعض التجار". ويؤكد خضر أن هذه الظاهرة أدت إلى انهيار القدرة الشرائية وزيادة الأعباء على المواطنين، ما يدفع كثيرين إلى العجز عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وعن تبعات الأزمة على الجانب الإنساني، تقول مريم سلامة، وهي من سكان غزة، إنها تواجه صعوبة في شراء أدوية وحقن وريدية: "كنت بحاجة إلى 300 شيكل لشراء العلاج، لكن بعد الخصومات لم يصلني سوى 150 شيكل. وفوق ذلك، رفض الصيدلي التعامل مع العملة الورقية التي لديّ لأنها ممزقة، فاضطررت إلى سحب مبلغ إضافي للحصول على عملة بحالة أفضل".
وتتابع مريم بمرارة: "حتى عندما حاولت شراء القليل من السكر بعد حصولي على الدواء، قدمت للبائع ورقة نقدية من فئة 20 شيكل، فرفضها بحجة أنها تالفة. وإن أردت الشراء عبر التطبيقات، فأنا أدفع أضعاف سعر السلعة، وكل ذلك نتيجة الحرب وانهيار النظام المالي في القطاع".
تجار العمولة "ينهبون" نصف مدخرات المواطنين وسط غياب الرقابة
من جهته، يصف الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر الوضع بأنه "قرصنة مالية ممنهجة"، مشيرًا إلى أن الأزمة تجاوزت مرحلة الغلاء ونقص السلع لتصبح "استنزافًا منظمًا للقوة الشرائية". ويوضح أن "100 شيكل فقدت نصف قيمتها الفعلية بسبب هذه الممارسات، حيث لا يحصل المواطن إلا على 50 شيكلاً فعليًا بعد الخصم".
وتكشف المعطيات الميدانية عن مشهد مأساوي يعيشه المواطنون، الذين يضطرون لدفع نصف رواتبهم أو تحويلاتهم كعمولة لمجرد الحصول على سيولة نقدية. هذه الأزمة تتفاقم يوميًا مع استمرار غياب الحلول المؤسسية، مما يهدد بانهيار اقتصادي واجتماعي في القطاع المحاصر.
ويطالب خبراء اقتصاديون بتحرك عاجل من سلطة النقد الفلسطينية لضخ سيولة نقدية، ووضع ضوابط صارمة لعمليات الصرف، وإنهاء احتكار تجار العمولة للسوق. كما يحذرون من أن استمرار هذا الوضع ينذر بموجة جديدة من التدهور المعيشي قد تكون أكثر خطورة من تداعيات الحرب ذاتها.
في ظل هذا الواقع، يبقى المواطن الغزي الضحية الأكبر، حيث تحولت أبسط حقوقه في الوصول إلى أمواله إلى معاناة يومية تزيد من أعباء الحياة في القطاع، الذي يعاني أصلاً من ويلات الحرب والحصار.
Today