"طفل جريح بلا عائلة".. مصطلح جديد يجسّد مأساة غزة الإنسانية

قالت صحيفة "الغارديان" إنه، وفي غضون أشهر قليلة من اندلاع الحرب في قطاع غزة، أُضيف إلى مفردات المساعدة الطبية الطارئة مصطلحٌ جديد وصفه العاملون في المجال الإنساني بأنه "الأكثر إيلامًا في العالم": WCNSF، اختصارًا لعبارة "طفل جريح، بلا عائلة ناجية" (Wounded Child, No Surviving Family)..
وأشار التقرير الخاص الذي نشرته الصحيفة إلى أن المشكلة تفاقمت خلال أكثر من عامَين من القصف والمجاعة، رغم الصعوبات البالغة في تتبع الأطفال المنفصلين عن ذويهم وسط الفوضى المستمرة الناجمة عن الغارات الإسرائيلية وأوامر الإخلاء التي تُفكّك المجتمعات وتشتّت السكان في جميع أنحاء قطاع غزة.
أرقام صادمة
ونقلت "الغارديان" عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أنها استندت إلى إحصاءات صادرة عن وزارة الصحة في غزة في أوائل سبتمبر، سجّلت فقدان 2,596 طفلًا لكلا والديهم، إضافةً إلى 53,724 طفلًا آخرين فقدوا أحد والديهم — منهم 47,804 فقدوا آباءهم، و5,920 فقدوا أمهاتهم.
ولفت التقرير إلى غياب بيانات دقيقة عن عدد الأطفال اليتامى الذين أُصيبوا أيضًا بجروح. ومع ذلك، وحتى في اليوم الذي تم فيه الاتفاق على المرحلة الأولى من اتفاق لوقف إطلاق النار (الخميس 10 أكتوبر 2025)، ظلّ قطاع غزة يسجّل أعلى معدل لبتر أطراف الأطفال في أي نزاع حديث.
قصة وسام: رمز للألم والوحدة
وروت الصحيفة تفاصيل حالة الطفلة وسام (3 سنوات)، التي كانت نائمة في 13 أغسطس مع شقيقها زهير (5 سنوات)، ووالدتها الحامل نور، ووالدها معتصم، وجَدّيها، حين قُصف منزل العائلة في مدينة غزة. وكانت وسام الوحيدة التي نجت، لكنها أُصيبت بجروحٍ خطيرة في ساقها وبطنها، شملت تمزّقًا في الكبد والكلى، فضلاً عن صدمة نفسية عميقة.
ونقلت الغارديان، عن اليونيسف قولها إن وسام "في حاجة ماسّة إلى إجلاء طبي عاجل للخارج لتلقّي علاج متقدّم، لا سيما لإنقاذ ساقها اليسرى من خطر البتر".
وأضاف التقرير أن الهجوم الإسرائيلي على غزة خلّف آلاف الأطفال مثل وسام — وحيدين، وغالبًا ما يعانون من إصابات حرجة.
وبحسب الصحيفة، فإن عدد هؤلاء الأطفال كبيرٌ لدرجة أن الجرّاحين المنهكين في أقسام الطوارئ باتوا يكتبون اختصار WCNSF مباشرةً على ملفات المرضى.
انهيار النسيج الاجتماعي وغياب بدائل الرعاية
ونقلت الصحيفة عن كيران كينغ، رئيس الشؤون الإنسانية في منظمة "وار تشيلد" (War Child) الخيرية البريطانية، قوله: "هذه هي المرة الأولى في تاريخ النزاعات التي يُحتاج فيها إلى مصطلح كهذا. لقد نشأ من فِرق الطوارئ الطبية — أشخاص عملوا في كل النزاعات منذ عقود — وابتكروا WCNSF لأنهم لم يواجهوا من قبل تحدّي حماية الأطفال بهذا الحجم".
أشار تقرير "الغارديان" إلى أن الأطفال في غزة يعيشون وسط أصوات القصف منذ عامَين، وأن فرق الإغاثة تواجه تحديات هائلة في توفير الحماية لهم. فقد قال جاكوب غرانغر، منسّق الطوارئ في منظمة "أطباء بلا حدود" في دير البلح جنوبي غزة: "نجلب إلينا باستمرار أطفالًا جرحى دون أي مرافق من عائلاتهم. نعالج جروحهم، لكن بعد ذلك لا يوجد أي استقرار".
وأوضح غرانغر أن "النسيج الاجتماعي والمؤسسات الداعمة غير موجودة فعليًّا"، مضيفًا: "هناك بعض الآليات المجتمعية، أو محاولات من وكالات لإيجاد أقارب أو مؤسسات لإيواء الأيتام، لكن كل ذلك لا يُجدي أمام حجم الكارثة".
جهود محدودة في بحر من الاحتياجات
وأفادت "الغارديان" بأن اليونيسف توفّر "رعاية طارئة قصيرة الأمد للأطفال المعرضين لخطرٍ كبير — المفقودين، الأيتام، والمنفصلين — لضمان سلامتهم الفورية، بينما يعمل الأخصائيون الاجتماعيون على تتبع أفراد العائلة للرعاية طويلة الأمد".
ومن بين المنظمات القليلة التي تستجيب لحالات WCNSF، منظمة "وار تشيلد"، التي يجوب عاملوها الاجتماعيون المخيمات بحثًا عن الأطفال غير المصحوبين، ويسعون لربطهم بعائلات مستعدة لرعايتهم.
ومن بين الحالات التي رصدها التقرير، الطفلة راده (13 عامًا)، التي شاهدت والدتها تُقتل برصاص قناص بعد أن فقدت والدها سابقًا.
وذكر تقرير للمنظمة أن راده تعاني من أعراض صدمة شديدة، بينها الانعزال، والقلق، والكوابيس، وآلام جسدية، وتتلقّى دعمًا نفسيًّا متخصصًا، وتجد بعض الراحة في الرسم.
بحثٌ مستحيل عن مَن يُطعم ويُؤوي
أكد كينغ لـ"الغارديان" أن "الوضع في غزة مختلف جذريًّا عن النزاعات الأخرى"، إذ غالبًا "لا يملك الأطفال أي أقارب أحياء، أو لا يمكن العثور عليهم بسبب الفوضى والتشريد المستمر".
وأوضح أن المنظمة تعتمد على قاعدة بيانات بعائلات مستعدة لاستقبال أطفال آخرين، لكن "العثور على هؤلاء العائلات أمرٌ بالغ الصعوبة في ظل ندرة الغذاء".
وأضاف التقرير أن الأطفال المصابين بجروحٍ خطيرة، وخصوصًا ذوي الأطراف المبتورة، يواجهون صعوبات هائلة في الانتقال جنوبًا وفق أوامر الإخلاء الإسرائيلية.
ونقلت الصحيفة أن تكلفة تأمين سيارة لنقل طفل جريح قد تصل إلى مئات الدولارات نقدًا، مع علاوة تصل إلى 40% وهو مبلغٌ يفوق قدرة معظم العائلات.
كما أشارت الغارديان إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، أعلن أن أي شخص يبقى في مدينة غزة يُعتبر "إرهابيًّا أو داعمًا للإرهاب"، ما يجعله هدفًا عسكريًّا مشروعًا.
أطفال الشوارع وسلوكٌ يعكس اليأس
ولفت التقرير إلى أن الأطفال، لا سيما الذكور، باتوا يتجمّعون من أجل البقاء، فيبحثون في مكبّات النفايات عن طعام أو ما يمكن بيعه، أو يتجمعون عند نقاط توزيع المساعدات — وهي تكتيكات تنمّ عن "يأسٍ قصوى".
وقال غرانغر: "هناك عدد كبير من الأطفال في الشوارع نهارًا، ومن الصعب معرفة إن كانوا لا يزالون مع عائلاتهم. لكن سلوكهم أصبح عدوانيًّا بشكل غير طبيعي. فترى طفلًا في السادسة أو الثامنة يصرخ في وجه سيارتنا كما لو كان رجلاً غاضبًا في الأربعين".
جيلٌ يحمل جراحًا لا تُشفى
وحتى الأطفال الذين لا يزالون مع عائلاتهم لم ينجُوا من الصدمات. ففي مخيم المعاصر جنوبي غزة، كان أحمد أبو هلال (12 عامًا) يساعد عائلته ببيع القهوة. وبحسب ما نقلته الغارديان عن والدته صابرين، كان أحمد يحلم بأن يصبح طبيبًا ثريًّا، ويشتري لها سيارة جيب، ويصبح لاعب كرة قدم.
لكن قذيفة إسرائيلية أصابته في خان يونس أثناء زيارة عمّته، فتمزّق جزءٌ من فخذه. وقالت والدته: "بعد الإصابة، تدهورت حالته الجسدية والنفسية بشكل كبير. كان يلوم نفسه، ويبكي باستمرار".
وأضافت أن أحمد ما زال يعتمد على مسكّنات الألم، وأن الأطباء حذّروا من احتمال أن "لا يمشي مجددًا".
صدمةٌ بلا مفرّ
وخلص تقرير "الغارديان" إلى أن المعاناة تكون أشدّ قسوة على الأطفال الذين فقدوا كل دعم عائلي. ونقل عن غرانغر قوله: "تخيّل الأثر النفسي على طفل، كلما حاول أن يقف أو يمشي — وهو ردّ فعلٍ غريزي — يتذكّر اللحظة التي فقد فيها ساقيه وعائلته. وسيظلّ هذا يلازمه طوال حياته، مع علمه أن الشروط الأساسية للتغلب على الصدمة — الأمان والاستقرار — مستحيلة هنا. فليس هناك مكانٌ آمن في غزة".
Yesterday