تحليق غير مسبوق للطائرات الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية.. إلى أي مدى يهدد الأمن الرقمي والاتصالات؟

وقد أفادت تقارير بأن طائرات مسيرة إسرائيلية حلّقت للمرة الأولى فوق القصر الجمهوري في بعبدا، يوم أمس الاثنين، في ما اعتُبر رسالة سياسية واضحة للرئيس جوزيف عون، بالتزامن مع تصريح رئيس مجلس النواب نبيه بري برفض إسرائيل اقتراحًا أمريكيًا لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع لبنان.
وبين التصعيد الدبلوماسي والتحليق المكثف لطائرة الاستطلاع التجسسية، أو كما يسميها أهالي جنوب لبنان "أم كامل"، يبرز السؤال: ما مدى خطورة هذه الطائرات، وهل يمكن أن تشكل تهديدًا فعليًا للأمن الرقمي والاتصالات في لبنان؟
بين الرصد والحرب النفسية
يوضح مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عامر الطبش لـ"يورونيوز" أن الطائرات التي تحلق فوق لبنان تنقسم عادة إلى نوعين: طائرات الرصد والطائرات الحربية، ولكل منهما نماذج مختلفة تبعًا للمهمة.
والطائرات المخصصة للرصد والتجسس تؤدي، بحسب الطبش، دورين متكاملين: الأول نفسي يتمثل في "الضغط على المواطنين عبر الأنين المزعج الذي يصدر عن الطائرات"، إذ تملك إسرائيل مسيرات قادرة على الطيران دون إصدار صوت أو على ارتفاعات عالية، لكنها تتعمد التحليق المنخفض لإثارة الخوف والارتباك في نفوس الناس. أما الدور الثاني فهو تقني – أمني، يرتبط بقدرات المسيرات الهائلة في الرصد والتصوير والتنصت والدخول على شبكات الاتصالات.
ويشرح الطبش أن هذه الطائرات يمكنها "انتحال صفة عمود إرسال تابع لشركة الاتصالات"، بحيث يتصل الهاتف المحمول بها بدلًا من البرج الحقيقي، ما يسمح لها بالتجسس أو تعطيل الاتصالات في منطقة معينة. كما يمكنها التشويش على الأقمار الاصطناعية الموجودة فوق الأبنية، والتقاط الصوت والصورة عبر كاميرات دقيقة وعدسات متعددة.
ويضيف: "هذه المسيرات تتابع حركة الهواتف وتتبع أشخاصًا محددين، فتراقب مثلًا مسار تحركاتهم من منطقة إلى أخرى، لتجمع بنك معلومات واسع ومحدث حول التحركات والاتصالات".
رسائل متعددة
يشير الطبش إلى أن الأيام الأخيرة شهدت نوعًا جديدًا من النشاط الجوي، إذ لم تعد المسيرات الإسرائيلية وحدها في السماء اللبنانية، بل "انضمت إليها المسيرات الأمريكية أيضًا". ويضيف أن هذه التحركات ليست جديدة تمامًا، لكنها لم تكن مكثفة بهذا الشكل منذ نحو شهرين.
ويؤكد أن الطيران الذي شوهد مؤخرًا فوق بيروت وضاحيتها والجنوب لساعات طويلة وعلى ارتفاع منخفض "يعني بوضوح أن هناك عملية رصد وجمع معلومات ميدانية لتحديث بنك الأهداف الإسرائيلي.
أما التحليق فوق القصر الجمهوري في بعبدا، فيصفه الطبش بأنه "رسالة سياسية أكثر مما هو عمل تقني"، تهدف إلى تذكير رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش بأن "السماء اللبنانية لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية"، وخصوصًا أن وقف الطلعات الجوية الإسرائيلية كان من أبرز المطالب اللبنانية في المحادثات مع الموفد الأمريكي.
ويتابع: "التحليق المنخفض في منطقة حساسة أمنيًا مثل بعبدا، التي تضم وزارة الدفاع وقيادة الجيش، يشكل استفزازًا ورسالة مفادها أن إسرائيل قادرة على اختراق الأجواء متى تشاء".
كيف يحمي المواطن نفسه؟
وفق تقرير نُشر عبر منظمة "سمكس" (SMEX) المعنية بحقوق الإنسان في الفضاء الرقمي، تمتلك إسرائيل مسيرات متطورة قادرة على اعتراض الإشارات المرسلة من الهواتف ودمج أجهزة الاستشعار بالذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف بدقة عالية، بما في ذلك محطات الأسلحة والأشخاص. كما تستخدم تحليل الفيديو لرسم خرائط داخل المباني وتحديد مواقع المقاتلين والمدنيين في الوقت الحقيقي.
ويحذر التقرير من قدرة هذه الطائرات على تنفيذ "تشويش على نظام التموضع العالمي (GPS)" عبر محاكاة إشارات الشبكة واعتراض كل ما يرسله الهاتف أو يستقبله.
وفي حديثه لـ"يورونيوز"، يوضح عبد قطايا، مدير برنامج الإعلام ومشروع حوكمة الإنترنت في "سمكس"، أن "الطائرات تستبيح سماء لبنان في غياب أي رد فعل رسمي من الدولة اللبنانية"، مشيرًا إلى أن ما ترصده هذه المسيرات يشمل "تحركات الناس، أماكن تواجدهم، وأنشطتهم اليومية"، بفضل دقة كاميراتها وقدرتها على تتبع الإشارات الرقمية والهواتف.
ويشدّد قطايا على أن "الجهة المسؤولة عن متابعة هذا الملف هي الدولة اللبنانية التي يمكنها رفع شكوى أمام الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)"، داعيًا السلطات إلى التحرك الجاد في هذا المجال.
ورغم أن القدرة على تفادي تأثيرات هذه الطائرات تكاد تكون مستحيلة، تبقى بعض الخطوات الفردية ضرورية للحد من المخاطر الرقمية. يوصي قطايا المواطنين باتباع إجراءات حماية رقمية، منها الحصول على المعلومات من المصادر الرسمية فقط، وتعطيل الأذونات (permissions) على الهواتف نظرًا إلى أنها يمكن أن تهدّد خصوصية المستخدم، وإطفاء خاصية تحديد الموقع (location) ما لم تكن هناك حاجة لها، واستخدام شبكات VPN، وتجنب الروابط المشبوهة.
ضغوط متزايدة على لبنان
يأتي التحليق المكثف للطائرات الإسرائيلية في لحظة حساسة، إذ يتزامن مع تصاعد الضغوط الأمريكية على الحكومة اللبنانية في ملف نزع سلاح حزب الله. المبعوث الأمريكي توم برّاك رفع منسوب لهجته مؤخرًا، محذرًا من أن "تردّد بيروت في حصر السلاح بيد الدولة" قد يدفع إسرائيل إلى التحرك منفردة لتنفيذ هذه المهمة.
وفي آب/ أغسطس الماضي، كانت الحكومة اللبنانية قد أقرّت خطةً لحصر السلاح بيد الجيش والأجهزة الأمنية تحت ضغطٍ أمريكي وتهديدات إسرائيلية بتوسيع الهجمات، فيما ناقشت الحكومة مطلع أيلول/ سبتمبر خطةً وضعها الجيش لتطبيق القرار.
ومع ذلك، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته واشنطن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، تواصل إسرائيل شنّ غارات على مواقع تزعم ارتباطها بحزب الله في الجنوب اللبناني، وتواصل التحليق في الأجواء، في خروقات متكررة للاتفاق.
Today